عضو الهيئة التدريسية في جامعة المصطفى (ص) العالمية و أحمد الأزرقي (الب دكتوراه في قسم القرآن والعلوم التربوية)
لابد لأي مفسر قبل أن يخوض في تفسير القرآن من أدوات وضوابط ومناهج، يعتمدها في عملية استخراج المراد الاستعمالي والجدي من آيات القرآن الكريم، وتختلف هذه الضوابط باختلاف القدرات العلمية والخلفيات العقائدية والثقافية، وغيرها للمفسر.
وثمة قضايا كلية يمكن استعمالها في عملية استكشاف معاني القرآن الكريم، وهي تمثل قواعد التفسير.
تتكفل هذه المقالة ببيان تعريف قواعد التفسير التربوي، وفرق هذه القواعد عن قواعد التفسير الخاصة، وكذلك فرقها عن أصول وقواعد علم التربية.
وقد ذكر الباحث نماذج من قواعد التفسير التي يمكن أن تصلح كقواعد للتفسير التربوي، مثل قاعده بطن القرآن، قاعده الجري والانطباق و ...
التفسير، القاعدة، التربية، قواعد التفسير التربوي.
مرَّ التفسير بعدة مراحل واتخذ أنماطاً وألواناً متعددة، ففي القرنين الأول والثاني كانت مرحلة التفسير الأثري، وفي نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع ونتيجة لأتساع العلوم وتطور المباحث الكلامية ظهرت النزعة الاجتهادية في التفسير.
وما بين القرنين العاشر والثاني عشر عاد المنهج الروائي، وشيئاً فشيئاً تعددت مناهج التفسير وتلونت اتجاهاته، وبرزت إلى الساحة التفاسير الجامعة التي استفادة من عدة مناهج واتجاهات وأساليب في التفسير.
وأما في العقود الأخيرة ومع تطور العلوم وتشعبها إلى أدق التخصصات أصبحت الحاجة ماسَّة لظهور تفاسير تخصصية تلبي حاجة العصر يتم فيها التركيز على جهة معينة من القرآن لم تكن قد بحثت بشكل مستقل.
والتفسير التربوي يصب في هذا الاتجاه، فيمكن النظر إلى القرآن من زاوية تربوية تخصصية وذلك بالإفادة من معطيات العلوم التربوية في فهم القرآن، أو تطبيق النظريات التربوية على القرآن، أو التنظير لهذه العلوم على أساس القرآن.
إن أهمية التفسير التربوي تبرز في كونه ينسجم مع الهدف الأساس من نزول القرآن وهو الهداية والتربية.
ومما لا ريب فيه إن هذه النظرة ستسهم في الكشف عن قضايا وإشارات تربوية كثيرة غير موجودة في بقية التفاسير.
وبعد التسليم بأهمية هذا اللون من ألوان التفسير العلمي فلابد من البحث عن القواعد الكلية للتفسير التربوي حيث يعتمد عليها في استخراج معاني القرآن، وإلا فبدونها تكون عملية التفسير صعبة إن لم تكن متعذرة.
وهذا البحث هو محاولة لاستخراج بعض هذه القواعد وتطبيقها على القرآن الكريم.
إنّ معنى التفسير في اللغة يدور حول البيان، والإظهار، والكشف، وقد اختلف اللغويون في تحديد الأصل الاشتقاقي الذي ظهرت منه كلمة التفسير، فمنهم من ذهب إلى أن الجذر هو (الفسر) بمعنى الإبانة وكشف المغطى، ففسر الشيء يفسره فسراً ، أي أبانه وكشف عنه. (أنظر: لسان العرب: ابن منظور، 55)
ومنهم من ذهب إلى أنه مقلوب الجذر عن (السفر)، فيقال: سفرت المرأة سفوراً، إذا ألقت خمارها عن وجهها فهي سافرة (مجمع البحرين: الطريحي، ج 3، ص 333.)
وعلى أي حال فعلى الرغم من الاختلاف في الأصل الاشتقاقي للكلمة، إلا أن المعنى اللغوي متقارب على كلا الرأيين.
أما معنى التفسير اصطلاحاً فقد عرف بعدة تعاريف منها:
1ـ (هو علم نزول الآيات وشؤونها وأقاصيصها، والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها ومدنيها، وبيان محكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها، وحلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها، ونحو ذلك). (الإتقان في علوم القرآن: السيوطي، ج 2، ص 294.)
2 ـ (التفسير هو إيضاح مراد الله تعالى من كتابه العزيز). (البيان في تفسير القرآن: الخوئي، ص 421)
3 ـ (التفسير في الاصطلاح علم يبحث فيه عن القرآن من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدرة الطاقة البشرية). (مناهل العرفان في علوم القرآن: الزرقاني، ج 1، ص471)
4 ـ (التفسير هو بيان معاني الآيات القرآنية والكشف عن مقاصدها ومداليلها). (الميزان في تفسير القرآن: الطباطبائي، ج1، ص 4)
ويلاحظ على التعريف الأول أنه بين العلوم التي تدخل في نطاق التفسير ولم يعرف التفسير.
أما التعريف الثاني، فقد اكتفى ببيان المعنى اللغوي، وكذلك الحال في التعريف الثالث، إلا أن هذا الأخير يوجد فيه قيد «بقدرة الطاقة البشرية»، وهو غير موجود في التعاريف المذكورة.
أما التعريف الرابع فقد اشتمل بالإضافة إلى بيان معاني الآيات القرآنية الكشف عن مقاصدها ومداليلها، وهو مما يشكل عاملاً مهماً، وهدفاً أساسياً يتوخاه المفسر من تفسيره، وعليه فان هذا التعريف يعتبر هو الأفضل من بين التعاريف المذكورة.
اصطلاح «قواعد»، جمع «قاعدة» وهي في اللغة: الأصل والأساس الذي يبنى عليه غيره ويعتمد، وكل قاعدة هي أصل للتي فوقها (انظر: مقاييس اللغة، مفردات الراغب، تهذيب اللغة، المصباح المنير، لسان العرب، مادة«قعد»)، ويستوي في هذا الأمور الحسية والمعنوية، فهي في كل شيء بحسبه، فقاعدة البيت أساسه. وفي القرآن استعملت بهذا المعنى. (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (البقرة / 127))
وعرفت القاعدة اصطلاحاً بأنها: «حكم كلي يتعرف به على أحكام جزئياته» (قواعد التفسير جمعاً ودراسة، خالد بن عثمان السبت، ج 1، ص21ـ 22، دار ابن عفان، 1421).
ج ـ اصطلاح «قواعد التفسير»: عرفها بعض الباحثين بهذه الصورة: «الأحكام الكلية التي يتوصل بها إلى استنباط معاني القرآن العظيم، ومعرفة كيفية الاستفادة منها». (نفس المصدر، ج 1، ص30)
هذا وقد تطلق قواعد التفسير على جملة علوم القرآن، وهذا إما أن يكون من باب إطلاق الجزء على الكل، وإما لكون علوم القرآن والكتب المصنفة في ذلك تشتمل على قواعد كثيرة من قواعد التفسير منثورة في أبواب مختلفة. (نفس المصدر، ج 1، ص33)
ثمة تداخل قد يقع فيه الباحث بين اصطلاحات ثلاثة وهي الأصل والقاعدة والمسألة، ولرب قائل يقول إن هي إلا اصطلاحات يمكن للباحث أن يستعملها بحسب ذوقه، ولكن الحقيقة غير ذلك؛ لأن استعمال الاصطلاح ينبغي أن يكون ضمن ضوابط وآليات، وهذا ما نبينه باختصار:
1ـ الأصل: وهو المبنى ويكون بمنزلة الجذر للبناء.
2ـ القاعدة: وهي التي تبنى على الأصل، وهي بمنزلة الحائط والجدران.
3ـ المسألة: وهي التي تنشأ من القاعدة أو توضع عليها وهي بمنزلة السقف. (انظر: قواعد التفسير لدي الشيعة والسنة: محمد فاكر الميبدي، ص 34)
المقصود بالتربية هي: الفعاليات الهادفة المتبادلة بين المربي والمتربي الغاية منها مساعدة المتربي في مجال إنضاج وتنمية استعداداته وقابلياته وشخصيته على مختلف الأبعاد، الفردية منها والاجتماعية والجسمية والعاطفية والأخلاقية والعقلية وغيرها. (تعامل فقه وتربيت: علي همت بناري، ص69)
قبل الخوض في صُلب الموضوع لابُد من الإشارة الي تقسيم قواعد التفسير فنقول:
إنَّ القواعد المُتعلّقة بتفسير القرآن الكريم ضمن نصاقها العام تكون علي أقسام:
قسمٌ منها يكون مشتركاً بين جميع العلوم كالفقه والتفسير و العلوم الأخري، وهي ما يُعبر عنه بالقواعد الأدبية.
وقسمٌ منها يجري في علمي الفقه والتفسير علي الأغلب، وهي ما نعبر عنها بالقواعد الأصولية.
وقسمٌ منها يختص بالتفسير فقط، وهي ما يطلق عليها قواعد التفسير.
وثمّة تقسيم آخر للقواعد وهو مايرتبط بالاتجاهات التفسيريّة، كالاتجاه الكلامي، والاتجاه التاريخي، والاتجاه العرفاني، والاتجاه الاجتماعي، والاتجاه التربوي و... .
وأنَّ المبحوث عنه في هذا المجال هو القسم الأخير فقط، أي القواعد المتعلقة بالاتجاه التربوي في تفسير القرآن.
إذا سلمنا بأن التفسير له قواعد وضوابط والتي هي الأحكام الكلية التي يتوصل بها إلى استنباط معاني القرآن الكريم، فيمكن أن نقول أن قواعد التفسير التربوي هي: الأحكام والضوابط الكلية التي يستنبط منها المعاني والإشارات التربوية من القرآن الكريم، بمعنى استخراج تلك المعاني التربوية المكتنفة في النص.
وبعد ما تقدم نقول أن القرآن الكريم يحتوي على أحكام كلية نستطيع من خلالها التوصل إلى المعاني التربوية من كتاب الله العزيز، فما هي هذه القواعد؟ وكيف نميز بينا وبين القواعد الأخرى؟ بعبارة أخرى ما هو الفرق بين قواعد التفسير بشكل عام وبين قواعد التفسير التربوي التي نروم البحث عنها؟
نقول وبالله الاستعانة أن جميع القواعد التفسيرية التي يمكن من خلالها استفادة القضايا والإشارات التربوية يمكن أن تدخل ضمن نطاق قضايا التفسير التربوي فتكون مشتركة بين التفسير وعلم التربية، ولكن الأصل فيها هو أنه قضايا تفسيرية وليست تربوية، فلا يتوهم البعض ويخلط بين قواعد علم التربية وقواعد علم التفسير بدعوى أنها قواعد لعلم واحد، على العكس فإن لكل علم قواعده وضوابطه الخاصة به، فعلم التربية كعلم له قواعد وأصول خاصة به لا يمكن أن تتداخل مع علم آخر؛ لأنه في هذه الحالة سوف تتداخل العلوم إلى حد تضيع هويتها ومبادئها وأصولها.
ومن هنا فإن البحث في قواعد التفسير التربوي إنما هو بحث في قواعد علم التفسير مع ملاحظة الجنبة التربوية والبعد التربوي الذي يمكن استفادته من خلالها، ويدخل في هذا المجال القواعد العامة في التفسير التي يشترك فيها علم التفسير مع العلوم الأخرى كاللغة والأصول وغيرها.
نعم إنها تبرز وبشكل واضح في القواعد الخاصة بعلم التفسير مثل قاعدة المحكم والمتشابه وقاعدة البطون وغيرها وهذا ما سنتعرض له كنماذج على هذه القواعد.
نستعرض نماذج من هذه القواعد والتي هي في الحقيقة قواعد خاصة بعلم التفسير، ولكن استعمالها في استخراج النكات والمسائل التربوية يكون بارزاً وواضحاً واليك هذه النماذج:
إن مبحث بطن القرآن واحد من أهم المباحث في علوم القرآن فحظي بالاهتمام منذ القدم، وتناولته أحاديث النبي وروايات أهل البيت وتفاسير القرآن.
يمثل القرآن ـ الذي هو ما بين الدفتين ـ برنامجاً لحياة البشر إلى نهاية التاريخ، وان سر الخلود في هذا الكتاب العزيز يكمن في البطون فيمكن في كل عصر أن يتضح لنا ونكتشف مستوى معين من معارفه الرفيعة.
وأنَّ هذا الموضوع من الأهمية بمكان مما دعى بعض العلماء إلى اعتبار أن حقيقة تفسير القرآن هي: بيان تلك المستويات المعرفية القرآنية المحجوبة عنا، بعبارة أخرى: بطون القرآن لا بيان ظواهر القرآن. (انظر: الخوئي، البيان ، ص266 ـ 268)
وسعى بعض المفسرين المعاصرين لوضع قانون لاستنباط البطون. (معرفة، التفسير الأثري الجامع، ج 1، ص 28).
مسألة البطون مسألة تفسيرية من جهة، ومن جهة أخرى تعد من مسائل علوم القرآن، ومن جهة أخرى تجدها في الكتب الروائية، ومن وجهة رابعة تجد الأصوليين قد اهتموا بها في كتب أصول الفقه.
مفهوم البطن (انظر المعرفة، التفسير الجامع الاثري، ج 1، المقدمه)
قال ابن منظور: الظهر من كل شيء خلاف البطن. (ابن منظور، لسان العرب، مادة (ظَهَرَ))
والبطن من كل شيء: جوفه. (نفس المصدر، مادة (بَطَنَ))
نموذج من استعمال القاعدة
ثمَّة نماذج وتطبيقات كثيرة لهذه القاعدة، ومنها ما هو متعلق بالقصص القرآني، ويختلف القصص القرآني عن غيره من القصص في ناحية أساسية هي ناحية الهدف والغرض الذي جاء من أجله؛ ذلك أن القرآن الكريم لم يتناول القصة لأنها عمل فني مستقل في موضوعه وطريقة التعبير فيه، كما أنه لم يأت بالقصة من أجل التحدث عن أخبار الماضين وتسجيل حياتهم وشئونهم ـ كما يفعل المؤرخون ـ وإنما كان عرض القصة في القرآن الكريم مساهمة في الأساليب العديدة التي سلكها لتحقيق أهدافه وأغراضه الدينية التي جاء الكتاب الكريم من أجلها ، بل يمكن أن نقول: أن القصة هي من أهم هذه الأساليب. (علوم القرآن: السيد محمد باقر الحكيم ص 353)
وفي هذا الصدد يمكننا أن نشير إلى الآيات التي تتحدث عن القصص القرآني وبالأخص تلك التي تتناول قصص الأنبياء والتي تدعو إلى أخذ العظة والعبرة منها فقد قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ. (يوسف / 11)
وقد استدل البعض على وجود البطون بالآيات الداعية إلى الاعتبار من قصص القرآن (أنظر: روشهاى تأويل قرآن (مناهج تأويل القرآن) للدكتور شاكر ص140) فمفردة «العبرة» الواردة في الآية المتقدمة مشتقة من مادة «عـَبَرَ» بمعنى العبور من المعنى الظاهري والوصول إلى المطالب المحورية للتعاليم القرآنية أي أن الهدف والمقصود العام لكل آية يمكن أن يكون لأجيال متعددة هو أخذ العبرة، نعم فلو كانت القصص القرآنية مقيدة بالظرف الزماني أو المكاني أو بشخصيات تاريخية لأصبحت قصصاً تاريخية غير مفيدة للأجيال اللاحقة، في حين أن القرآن الكريم عبارة عن برنامج ينظم حياة جميع المسلمين ولجميع الأجيال في الماضي والحاضر والمستقبل، فلابد أن تكون القصص ملغاة الخصوصية وقضايا عامة تدعو إلى الاعتبار وتنطبق على مصاديق في كل زمان ومكان، وهو احد معاني استنباط البطون من الآيات، والذي أشارت إليه بعض الأحاديث، فعن الإمام الباقر أنه قال: (ولو أن الآية نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء، ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السموات والأرض...). (العياشي، ج 1، ص21)
ومن هنا تتضح أهمية قاعدة البطن في التفسير التربوي مع الأخذ بنظر الاعتبار القصص القرآني؛ ذلك لأن هدف القرآن من عرض القصة ـ الذي يعتبر أحد الأساليب لتحقيق الهدف العام من نزوله ـ هو التغيير الجذري الشامل وهو لا يخرج عن كونه هدفاً تربوياً، وعليه يمكن تطبيق هذه القاعدة على جميع القصص القرآني.
فقصة موسى مع العبد الصالح إذا تأملنا فيها وفق هذه الرؤية وانطلاقاً من هذه القاعدة ستنكشف لنا أسراراً ومعان تربوية مهمة، وهكذا الحال في جميع قصص الأنبياء والصالحين.
ونأخذ على سبيل المثال ـ وهو الرأي الذي تبناه الشيخ معرفة في بطن القرآن ـ قصة يوسف ومحاولة إخوته خداع أبيهم، فقد قال تعالى: أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (يوسف / 12)، فظاهر هذه الآية التخطيط والاحتيال من أخوة يوسف لخداع أبيهم وللتخلص من يوسف وذلك برميه في الجب.
وأما إذا قمنا بإلغاء الخصوصيات التي تكتنف الآية الكريمة، وجردناها من الزمان «زمان يعقوب» والمكان «فلسطين»، سنحصل على هدف الآية وهو: تحدي الآباء بخصوص الأبناء، وذلك بضرورة مراقبتهم والاهتمام بهم، حتى لا يحتال أحد على أبيه بخطط شيطانية، بأعذار كالغذاء أو اللعب فيكون سبباً في إيجاد المشاكل والمتاعب.
وبعد التعمق الفكري في الآية وإلغاء خصوصية الأب والأبناء فإننا سنحصل على معنى أعمق للآية ألا وهو: تحذير إلى الأمم بخصوص طاقاتها البشرية اللامعة، أن لا يختطفوا منهم بأي علل واهية.
إن هذه القاعدة، بُينَت منذ صدر الإسلام الأول في طيات أحاديث أهل البيت ولكن لم تحض بالاهتمام الكافي من قبل المفسرين وعلماء القرآن.
نعم قد تناول الشيخ عبد الرحمن ناصر السعدي «م1376 ق» في كتاب «القواعد الحسان لتفسير القرآن» هذه القاعدة في المبحث الحادي العشرين بشيء من التوضيح واعتبرها قاعدةً ذات مقام جليل وعظيم، ولكنه لم يبينها ضمن اصطلاح «الجري»، بيد أنه أشار إلى أن القرآن يجري في إرشاداته مع الزمان والأحوال في أحكامه الراجعة إلى العرف والعوائد. (انظر: القواعد الحسان لتفسير القرآن، ص62)
وقد اهتم بعض المفسرين المتأخرين كالعلامة الطباطبائي بقاعدة «الجري» اهتماماً خاصاً واستخدمها في تفسير بعض الآيات، واعتبر أن هذه القاعدة مستنبطة من أحاديث أهل البيت. (انظر: الميزان، ج 1، ص 41 ـ 42)
المقصود من القاعدة هو: العناية بإمكان الوصول إلى ما خفي من المعاني، أو ما خفي من المصاديق، بل التوجه إلى المعاني الظاهرة الحاصلة من الألفاظ المفردة وتراكيبها. ومن ثم بيان شرعية بعض التأويلات ورفض بعضها. (قواعد التفسير لدي الشيعة والسنة، محمد فاكر الميبدي، ص 300)
سوف نعتمد في هذا الموضوع على ما ذكره أستاذنا سماحة الشيخ الدكتور محمد علي الرضائي الأصفهاني، في كتابه أصول وقواعد التفسير فإن فيما ذكره كفاية.
1 ـ بيان المصاديق للألفاظ العامة
قد يستخدم في الآيات القرآنية لفظ عام ثم تبين مصاديقه عبر الأحاديث ومثال على ذلك قوله تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جحيم (سورة الانفطار: 13 ـ 14). ففي حديث عن الإمام الباقر قال: «الأبرار نحن هم والفجار هم عدونا». (البرهان في تفسير القرآن، سيد هاشم البحراني، ج4 ص436)
فان الأبرار والفجار جمع محلى بالألف واللام، ويمكن أن يكون شاملاً لجميع أبرار وفجار الأمم السابقة، وأمة الإسلام، ولكن الحديث خص أهل البيت بالأبرار فهم المصداق الوحيد.
ومن الواضح أن أهل البيت هم المصداق الأوضح لهذه الآية كما أن أعدائهم المصداق الأوضح لمفردة الفجار في هذه الآية، ولكن مصاديق الآية وتفسيرها غير منحصر بهؤلاء الأفراد.
ومن المؤكد أن هكذا تشخيص للمصاديق قدجاء في روايات أهلالبيت التفسيرية بشكل مستفيض، والقصة هنا تشبه الحال في قوله تعالى لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ، (سورة الرعد: 7) فهي عينت الإمام في كل عصر، (الكافي، الكليني، ج3، ص191) وهي القصة في مصداق قوله تعالى كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (سورة التوبة: 119) أي مع محمد وعلي وأهل البيت. (شواهد التنزيل، الحسكاني، ج1، ص259 ـ 262، تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، الطبعة: الأولى سنة الطبع: 1411 - 1990 م، الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي- مجمع إحياء الثقافة)
2 ـ بيان مصاديق الألفاظ المطلقة (تعريف الألفاظ عن طريق دخول أدوات العموم مثل كلمة (كل، جميع، كافة، الجمع المحلى بالألف واللام وغيرها)، وأما الألفاظ المطلقة فتعرف من خلال عدم وجود الضد، بالإضافة إلى إجراء مقدمات الحكمة (انظر كتب أصول الفقه كحلقات الشهيد الصدر وأصول المظفر وغيرها).)
وتقسم مصاديق الألفاظ المطلقة إلى قسمين:
فان بعض المفردات والجمل القرآنية مطلقة، ولا يوجد فيها أي قيد لتعيين أي مصداق خاص، ولكن وبواسطة الأحاديث الشريفة يمكن تشخيص المورد أو تعيين المصداق قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ. (سورة المطففين: 29)
فقد ورد عن ابن عباس أنه قال: «إن الذين أجرموا، منافقوا قريش، والذين آمنوا علي بن أبي طالب وأصحابه». (شواهد التنزيل، الحسكاني، ج2 ص327 ـ 329)
مثال آخر: قوله تعالى:هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمون (سورة الزمر: 9) فعن الإمام الباقر أنه قال: «فنحن الذين يعلمون، وعدونا الذين لا يعلمون». (الكافي، الكليني، ج 8، ص204 ـ 205)
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق حينما سأله رجل من أهل هيت فقال جعلت فداك قول الله تعالى هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب فقال: «نحن الذين نعلم وعدونا الذين لا يعلمون وأولو الألباب شيعتنا». (محمد بن الحسن الصفار، بصائر الدرجات، ص 75)
ففي هذه الأمثلة كانت عبارة الآيات مطلقة، ويمكن في الآية الأولى أن تكون العبارة شاملة لكل المؤمنين والمجرمين، وفي الآية الثانية يمكن أن تكون شاملة لكل العالمين وغير العالمين، ولكن الروايات المذكورة بينت بعض المصاديق، وليس يعني ذلك قصر التفسير والمصاديق... على ما ذكرته الرواية، ومن هنا بُيّن في روايات الآية الثانية مصاديق مختلفة.
ومن المؤكد أن هكذا نماذج وموارد عادةً ما تكون عديدة أو كثيرة في الروايات التفسيرية لأهل البيت، كما هو الحال في الروايات المبينة لمصاديق قوله تعالى غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ. (سورة الفاتحة: 7) فبعضها نص على اليهود والنصارى، (البرهان، المحدث البحراني، ج1 ص47) وبعضها صرح أنهم النواب والذين لا يعرفون إمام زمانهم. (نور الثقلين، الحويزي، ج1 ص24 ـ 25)
وان كان من المعلوم أن الآيات المحكمة والأحكام القرآنية الأساسية غير قابلة للتغيير على مر العصور كالصلاة والصيام والحج ونفي الشرك والقتل والزنا وحرمة الخمر وغيرها (وهي أحكام غير تابعة للزمان والمكان)، ولكن بعض مواضيع الأحكام والآيات يمكن لها أن تتغير على بحسب مقتضيات الزمان، بعبارة أخرى: إن بعض الآيات القرآنية بينت بصورة مطلقة في عصر نزول خاص ولها مصاديق خاصة على أساس العرف والعادات التي كانت موجودة، ولكن وبمضي الزمان وبتغير الظروف والعادات والأساليب في المجتمع اقتضت تلك الآيات ـ بمقتضيات الزمان ـ مصاديق جديدة، ومن ثم تجري الآيات في تلك المصاديق.
وبلغ ببعض العلماء الإصرار على هذا الموضوع حتى اعتبره قاعدة مستقلة تحت عنوان (القرآن يجري في إرشاداته مع الزمان والأحوال، في أحكامه الراجعة إلى العرف والعوائد) فعدها قاعدة جليلة القدر ذات فائدة كبيرة. (القواعد الحسان لتفسير القرآن، عبد الرحمن بن ناصر السعدي (ت 1326 هـ . ق)، ص79) ولكن من الواضح أنها جزء من قاعدة الجري.
وللمثال نذكر قوله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً، (سورة البقرة: 83 و سورة النساء: 39، وسورة الأنعام: 151، ويشابهها سورة الاحقاف: 15) فإن الإحسان إلى الوالدين مفهوم لم تبين خصوصياته لا في القول ولا في الفعل، وفي كل عصر له مصاديق وحالات وأفعال جديدة. ففي صدر الإسلام يعتبر توفير المئونة من غذاء ولباس، والكلام الطيب من مصاديق الإحسان، ولكن في عصرنا هذا يمكن أن توجد مصاديق جديدة من خلال تأمين الطعام والمسكن وإرضائهم عن طريق الارتباطات الالكترونية كـ (الاتصال الهاتفي أو البريد الالكتروني، والفاكس وغيرها) وكلها مقولة لمصاديق الإحسان.
وهكذا الحال في مفاهيم أخرى كمفهوم (المعروف) (انظر: سورة النساء: 19، وسورة البقرة: 178 و180 و228 و229 و231 و232 و233 و234 وسورة آل عمران: 104 و110 و114 وغيرها) الذي أمر به في باب الأمر بالمعروف وفي التعامل مع الآخرين وفي إجراء الأحكام الشرعية، ومفهوم صلة الرحم، (انظر سورة البقرة: 27 و سورة الرعد: 25 وغيرها) والذي له في كل عصر أفعال وأقوال وحالات متجددة تكون مصاديقاً لصلة الرحم، وكذلك الحال في مصاديق أخرى كمفهوم (الإسراف) (سورة الأعراف: 31) (واللباس) (سورة الأعراف: 26) و(القوة والاستعداد العسكري) (سورة الأنفال: 60) و(القسط والعدل) (سورة المائدة: 8) و(التجارة) (سورة النساء: 29) هذه المفاهيم التي تكون مصاديقها العرفية والشرعية والعقلية في كل زمان مقصودة ومراده، ومصداقاً للآية.
ما من فتنه وقعت في الأمة الإسلامية سواء كانت مرتبطة بالبحث السياسي، أو مرتبطة بالبحث العقائدي، أو مرتبطة بالأبحاث الفقهية والعملية، إلا ونجد استنادها إلى متشابه من المتشابهات القرآنية، من غير إرجاعها إلى محكماتها وهذا المعنى أشار إليه الإمام الرضا بشكل واضح حيث قال: «من رد متشابه القرآن إلى محكمه هدى إلى صراط مستقيم ثم قال: إن في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن ومحكماً كمحكم القرآن فردوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا». (عيون أخبار الرضا: الصدوق، ج 2، ص 26)
يعني أن الذي يريد أن يقف على الصراط المستقيم، لا طريق له إلا أن يرجع ويرد المتشابه إلى المحكم، وإلا ما لم يرجع وما لم يفعل فإنه لا يهدى إلى صراط مستقيم.
وقد صرح القرآن الكريم بتقسيم الآيات إلى محكمة ومتشابهة، وأطلق على الآيات المحكمة أمّ الكتاب، فهي بمثابة المرجع والمآل.
والمراد بهذه القاعدة هو: (بيان حكم الآيات المتشابهة في عملية التفسير للوصول إلى المعاني المرادة من تلك الآيات). (أنظر: قواعد التفسير لدى الشيعة والسنة: محمد فاكر الميبدي، ص 363)
ولا نريد الخوض في تفاصيل هذه القاعدة فما يهمنا هو أنها تنفع في استخراج المعاني والنكات التربوية من القرآن الكريم.
قال الشهيد الصدر مفسرا للآية السابعة من سورة آل عمران وهي قوله تعالى: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ. (سورة آل عمران: 7)
(فلقد قسمت فيها الآيات القرآنية إلى قسمين محكمات ومتشابهات، ثم عابت على أهل الزيغ والهوى من إتباع ما تشابه منه؛ ابتغاء الفتنة والتأويل، وقد استفيد منه النهي عن إتباع المتشابه، حيث اعتبرت ذلك طريقة أهل الزيغ، وإلا فلا نهي صريح عن إتباع المتشابه، ولكن من الواضح أن المتفاهم عرفاً من هذا التعبير ـ بعد تلك القسمة الثنائية ـ إن النظر إلى الذين يختصون بإتباع المتشابهات ويلتقطونها ويفصلونها عن المحكمات؛ ابتغاء الفتنة والمشاغبة، وتشويش الأذهان من خلال ذلك التشابه، كما هو شأن من يريدون الفتنة والمشاغبة، فظاهر الآية على هذا النهي عن مثل هذه الفتنة التي تكون بالاقتصار على المتشابهات، والتركيز عليها من دون الرجوع إلى المحكمات التي هن أم الكتاب). (بحوث في علم الأصول (تقريرات بحث السيد محمد باقر الصدر): محمود الهاشمي، ج 1، ص 282)
وعلى ما ذهب إليه الشهيد الصدر يمكننا القول: إن التطبيقات التربوية للقاعدة المذكورة ينبغي أن تتخذ نفس المسار الذي تسير عليه المباحث التفسيرية في إرجاع الآيات المتشابهة إلى المحكمة، فلا يمكننا تطبيق النظريات أو الإشارات والتي تحتمل أكثر من معنى المستخرجة من القرآن على مصاديق معينة، دون الرجوع إلى الآيات المحكمة في ذلك؛ لأن ذلك سوف يدخلنا في دائرة التفسير بالرأي المنهي عنه بصريح الروايات.
حينما نأتي إلى قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (سور طه: 5) نجد للفظ الاستواء مفهوما لغوياً معينًا اختص به، وهو الاستقامة والاعتدال مثلا، وليس هناك أي تشابه بينه وبين معنى آخر في علاقته باللفظ، فهو كلام قرآني قابل للإتباع ولكنه متشابه، لما يوجد فيه من التردد في تحديد صورة هذا الاستواء من ناحية واقعية، وتجسيد مصداقه الخارجي بالشكل الذي يتناسب مع الرحمن الخالق الذي ليس كمثله شيء.
وحين نفهم المتشابه بهذا اللون الخاص لا بد لنا أن نفهم المحكم على أساس هذا اللون الخاص أيضا، وهذا شيء تفرضه طبيعة جعل المحكم في الآية مقابلا للمتشابه، فليس المحكم ما يكون في دلالته اللغوية متعين المعنى والمفهوم فحسب، بل لا بد فيه من التعيين في تجسيد صورته الواقعية وتحديد مصداقه الخارجي، ففي قوله تعالى: ... لَيْسَ كَمِثْلِهِ...، (سورة الشورى: 11) نجد الصورة الواقعية لهذا المفهوم متعينة، فهو ليس كالإنسان ولا السماء ولا كالجبال... إلى آخره من الأشياء). (علوم القرآن: محمد باقر الحكيم، ص 171)
وعليه فإنه لا يمكن استنتاج معنىً تربوياً أو حقيقة علمية صحيحةً بالاستناد إلى قوله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى التي يشير ظاهرها إلى الاستواء والجلوس المادي الذي يوحي إلى جسمانية الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً، من دون الرجوع إلى قوله تعالى: ... لَيْسَ كَمِثْلِهِ....
فالنظرة الشمولية إلى آيات القرآن الكريم وعدم الانفراد بتفسير الآيات المتشابهة بمعزل عن الآيات المحكمة، سيغير النظرة المعرفية إلى القرآن الكريم، وهذه النظرة ستنعكس على النظام التربوي الذي نريد استلهامه من القرآن الكريم.
إن نفي الجسمية والمحدودية عن الله تبارك وتعالى له أثر تربوي بارز في حياة الإنسان، ويجعله يستشعر حالة المراقبة الإلهية في كل لحظة من لحظات حياته، بل هو في حالة عبادة مستمرة فلا يعمل عملاً يخالف أوامر الحق عز وجل.
وعندها نفهم أهمية قاعدة إرجاع متشابهات القرآن إلى محكماته، فهي من قواعد التفسير المهمة التي لها تطبيقات تربوية كثيرة.
من المسائل المهمة التي لقيت اهتماماً كبيراً من قبل العلماء والمحققين هي البحث في أسباب النزول، حتى ألفت كتب متخصصة في هذا المجال؛ كأسباب النزول للواحدي (ت 468 ﻫ)، وأسباب النزول للسيوطي (ت 911 ﻫ )، وغيرها من الكتب الروائية التي اهتمت بهذه المسألة.
إن دراسة أسباب النزول تؤثر تأثيراً كبيراً في فهم الآيات القرآنية، وهي تعتبر من قواعد التفسير التي يحتاجها المفسر قبل شروعه في عملية التفسير، وقد بالغ البعض في بيان أهمية هذه المسألة، فذهب إلى عدم إمكان تفسير الآية القرآنية دون معرفة سبب نزولها.
قال الواحدي: (لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها). (الإتقان في علوم القرآن: السيوطي، ج 1، ص87)
وقد ذكرت مجموعة من التعاريف لأسباب النزول متقاربة من حيث المعنى، لكنها مختلفة في الصياغة.
قال الزرقاني: (سبب النزول هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه، أو مبينة لحكمه أيام وقوعه. والمعنى أنه حادثة وقعت في زمن النبيأو سؤال وُجِّه إليه ، فنزلت الآية أو الآيات من الله تعالى ببيان ما يتصل بتلك الحادثة، أو بجواب هذا السؤال. (مناهل العرفان في علوم القرآن: محمد بن عبد العظيم الزرقاني، ج1، ص242)
أمَّا الشهيد الصدر فإنه بعد أن قسم الآيات القرآنية التي نزلت لأجل الهداية والتربية والتنوير، والآيات التي نزلت بسبب مثير وقع في عصر الوحي، واقتضى نزول القرآن فيه قال: (أسباب النزول هي: أمور وقعت في عصر الوحي واقتضت نزول الوحي بشأنها). (علوم القرآن: محمد باقر الحكيم:، ص 38)
ولهذه القاعدة دور مباشر في استخراج المعاني والإشارات التربوية من القرآن الكريم
إن الخطاب في الشريعة الإسلامية، وخصوصاً القرآن لم يوجه إلى مجتمع دون مجتمع آخر، ولم يقتصر على فئة من الناس دون أخرى، فهو خطاب ممتد مع الزمن، خاطب الأجيال الماضية، ويخاطب الأجيال اللاحقة والقادمة، وهذا هو سر خلود القرآن الكريم.
(وثمة قاعدة أصولية مطردة في جميع أحكام الشريعة المقدسة، فما يصدر من منابع الوحي والرسالة بشأن بيان أحكام الله وتكاليفه للعباد، ليس يخصُّ مورداً دون مورد، ولم يأت الشرع لمعالجة حوادث معاصرة، وإنما هو شرع للجميع.. الأمر الذي دعا الفقهاء إلى إلغاء الخصوصيات الموردية والأخذ بإطلاق الحكم، إن لفظياً أو مقامياً، حسب المصطلح). (التمهيد في علوم القرآن: محمد هادي معرفة، ج1، ص 261)
إن مضمون القرآن الكريم وإن كان عاماً وشاملاً، إلا أن نزوله بسبب أحداث ووقائع في حياة الناس التي تتطلب حكماً وتعليماً من الله جاء لكي يكون البيان القرآني أبلغ تأثيراً وأشد أهمية في نظر المسلمين، فآية اللعان مثلاً تشرع حكماً شرعياً عاماً لكل زوج يتهم زوجته بالخيانة، وإن نزلت في شأن هلال بن أمية (أنظر: علوم القرآن: محمد باقر الحكيم، ص 42)
لو تتبعنا أسباب النزول لكثير من الآيات القرآنية، لاتضح لنا أنها نزلت لتعالج مشاكل وتساؤلات اجتماعية وتربوية الغاية منها هي تربية الإنسان وترويضه على تقبل الأحكام الإلهية وتوطين النفس عليها.
1ـ عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إن أمير المؤمنين صلوات الله عليه قيل له: يا أمير المؤمنين أخبرنا بأفضل مناقبك؟ قال: نعم كنت أنا وعباس وعثمان بن أبي شيبة في المسجد الحرام، قال عثمان بن أبي شيبة: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وآله الخزانة يعنى مفاتيح الكعبة، وقال العباس: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وآله السقاية وهي زمزم ولم يعطك شيئا يا علي، قال: فأنزل الله أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 19. (تفسير العياشي: محمد بن مسعود العياشي، ج 2 - ص 83)
من سبب النزول المتقدم يمكن أن نفهم أن العمل المقبول عند الله هو الذي يكون ضمن إطار الإيمان، وهذا من الدروس التربوية المهمة التي ينبغي على الجميع تطبيقها في حياتهم.
2ـ قوله تعالى:وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (النساء: 151)
نقل الشيخ الطوسي أن الآية نزلت في شأن ابن أبي أبيرق، سارق الدرع . ولما أنزل الله في تقريعه وتقريع قومه الآيات، كفر وارتد، ولحق بالمشركين من أهل مكة، ثم نقب حائطا للسرقة، فوقع عليه الحائط فقتله، عن الحسن. وقيل: إنه خرج من مكة نحو الشام، فنزل منزلا، وسرق بعض المتاع، وهرب فأخذ ورمي بالحجارة حتى قتل، عن الكلبي. (تفسير مجمع البيان: الشيخ الطبرسي، ج 3 ـ ص 190).
ومن شأن النزول يمكننا أن نستفيد منهجين تربويين مهمين:
1ـ أن يسلك الإنسان طريق التوبة والعودة إلى الله.
2ـ أن يعرف الإنسان عاقبة العناد ومخالفة الرسول بعد وضوح الحق له، ويسير في طريق غير طريق المؤمنين فإن الله سوف لن يهديه إلى غير هذا الطريق، وسيرسله الله في يوم القيامة إلى جهنم.
الخامسة: قاعدة معرفة الهدف من نزول القرآن الكريم
من المواضيع الأساسية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً في فهم القرآن، هو معرفة الهدف من نزوله؛ فمعرفة الهدف من النزول لها دور أساس في كشف النقاب عن الغرض الأساس الذي تسعى الآيات القرآنية لتحقيقه.
إن دقة وصوابية النظرة إلى الهدف من نزول القرآن ومقاصده العامة، تؤدي إلى حسن التعامل معه وتدبره، وترشد القارئ إلى عظمة هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وتكمن أهمية هذا الموضوع في كونه من أهم الموضوعات التي تؤثر في فهم القرآن الكريم؛ فهو إحدى القرائن المنفصلة التي تكتنف النص القرآني.
وعليه فإن معرفة الهدف من نزول القرآن تشكل (موضوعاً من موضوعات القرآن الكريم، وبحثاً تفسيرياً يمكن أن يتناوله الباحثون؛ كما يتناولون التوحيد والنبوة والإنسان والسنن التاريخية في القرآن؛ وذلك لان القرآن قد تحدث عن الموضوعات الأخرى). (تفسير سورة الحمد: محمد باقر الحكيم ص 63)
من أهم القضايا التي تؤثر في فهم القرآن، معرفة الهدف من نزوله؛ لأن الهدف بطبيعة الحال يلقي بظلاله على المعنى القرآني، بحيث يكون إحدى القرائن المنفصلة التي تكتنف النص.
و مثالاً على ذلك قوله تعالى: ... وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ، (سورة النحل: 89) يمكن أن نفهم «كل شيء» هنا على ضوء «الهدف من نزول القرآن»، فالمراد من التبيان هو التبيان الشامل لما يرتبط بهذا الهدف، وهكذا في الموارد الأخرى.
إن معرفة الهدف القرآني سوف تساهم في تفسير مجموعة من الظواهر القرآنية؛ حيث قد يختلف تفسير الظاهرة باختلاف تفسير الهدف من نزول القرآن.
كما في تكرار القصة الذي يتجه بعضهم إلى تفسيره على أساس بلاغي، بينما قد يكون الأساس التربوي هو التفسير الصحيح. (أنظر: علوم القرآن: محمد باقر الحكيم، ص 46)
وإذا عرفنا أن الهدف من نزول القرآن الكريم هو الهداية والتربية وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، أو بحسب ما يعبر الشهيد الصدر التغيير الجذري الشامل للبشرية يمكن تفسير من الآيات القرآنية ضمن إطار هذا الهدف.
لابد من الإشارة إلى أن موضوع قواعد التفسير التربوي يحتاج إلى تأصيل وبحث موسع، وأن ما ذكره الباحث لا يمثل جميع جوانبه، وعليه فلابد من الاهتمام به واستيعاب مناحي البحث فيه؛ لأنه سيسهم ـ بدون أدنى شك ـ في إبراز ملامح التفسير التربوي الذي هو بحاجة إلى بحوث ودراسات جادة ومعمَّقة تتناولُ الأسس والأصول والمناهج والأساليب بالإضافة إلى القواعد.
ومما تقدم يمكننا التوصل إلى النتائج التالية:
1ـ يمكن تعريف قواعد التفسير التربوي بأنها: الأحكام والضوابط الكلية التي يستنبط منها المعاني والإشارات التربوية من القرآن الكريم، بمعنى استخراج تلك المعاني التربوية المكتنفة في النص.
2ـ إن الأصل في قواعد التفسير التربوي هو أنها قواعد تفسيرية وقد لحظ فيها الجانب التربوي.
3ـ بالإمكان تطبيق قاعدة البطن مع الأخذ بنظر الاعتبار القصص القرآني في استخراج الكثير من المضامين التربوية للقرآن الكريم.
4ـ لقاعدة الجري والانطباق دور مهمٌ في استخراج المعاني التربوية من القرآن الكريم.
5ـ إن التطبيقات التربوية لقاعدة إرجاع متشابه القرآن إلى محكمه ينبغي أن تتخذ نفس المسار الذي تسير عليه المباحث التفسيرية في إرجاع الآيات المتشابهة إلى المحكمة.
6ـ إن قاعدة العناية بأسباب النزول من القواعد المهمة في التفسير التربوي؛ لأن الكثير من الآيات نزلت لتعالج قضايا ومشاكل اجتماعية وتربوية.
7ـ لقاعدة معرفة الهدف من نزول القرآن دور مهم في تفسير الظواهر القرآنية، فقد يختلف تفسير الظاهرة باختلاف تفسير الهدف، وبالأخص إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن القرآن الكريم كتاب تربية وهداية وتغيير.
1. الإتقان في علوم القرآن: السيوطي، دار الفكر بيروت ـ لبنان، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1416 - 1996م.
2. بحوث في علم الأصول (تقريرات بحث السيد محمد باقر الصدر): محمود الهاشمي، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، الطبعة الثانية، 1417 ﻫ ـ 1997م.
3. البرهان في تفسير القرآن، سيد هاشم البحراني، مؤسسة الأعلمي، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى، 1999م.
4. البيان في تفسير القرآن: الخوئي، دار الزهراء، لبنان ـ بيروت، الطبعة الرابعة، 1395.
تعامل فقه وتربيت: علي همت بناري، مركز انتشارات مؤسسه آموزشی وبژوهشی إمام خمينی،1383.
5. تفسير العياشي: محمد بن مسعود العياشي، تحقيق: الحاج السيد هاشم الرسولي المحلاتي الناشر: المكتبة العلمية الإسلامية ـ طهران.
6. تفسير سورة الحمد: محمد باقر الحكيم، مجمع الفكر الإسلامي، قم، الطبعة الأولى، 1420ﻫ . ق.
7. التمهيد في علوم القرآن: محمدهادي معرفة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم المقدسة، الطبعة الثالثة، 1418 ـ 1997.
8. روشهاى تأويل قرآن ( مناهج تأويل القرآن) للدكتور شاكر.
9. شواهد التنزيل، الحسكاني، تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، الطبعة: الأولى سنة الطبع: 1411 ـ 1990 م، لناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي ـ مجمع إحياء الثقافة.
10. علوم القرآن: محمد باقر الحكيم، مجمع الفكر الإسلامي، إيران ـ قم، ربيع الثاني، 1417هـ . ق، مطبعة مؤسسة الهادي، الطبعة الثالثة.
11. قواعد التفسير جمعاً ودراسة، خالد بن عثمان السبت، دار ابن عفان، 1421.
12. قواعد التفسير لدى الشيعة والسنة: محمد فاكر الميبدي، مركز التحقيقات والدراسات العلمية التابع للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب، الطبعة الأولى، 1428هـ . ق ـ 2007م.
13. القواعد الحسان لتفسير القرآن، عبد الرحمن بن ناصر السعدي (ت 1326 هـ ق)، بيروت لبنان.
14. القواعد الحسان لتفسير القرآن، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مكتبة الرشيد، الرياض، الطبعة الأولى، 1999.
15. الكافي، الكليني، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، الناشر: دار الكتب الإسلامية ـ طهران، الطبعة : الخامسة، سنة الطبع : 1363 ش.
16. الكافي، الكليني، ج3 ، ص191.
17. لسان العرب: ابن منظور، الناشر: نشر أدب الحوزة ـ قم ـ ايران سنة الطبع: محرم 1405.
18. مجمع البحرين: الطريحي، الطبعة الثانية، سنة الطبع: 1408 ـ 1367 ش، الناشر: مكتب النشر الثقافة الإسلامية.
19. محمد بن الحسن الصفار، بصائر الدرجات، تحقيق: تصحيح وتعليق وتقديم: الحاج ميرزا حسن كوچه باغي، سنة الطبع: 1404 ـ 1362 ش، المطبعة: مطبعة الأحمدي ـ طهران، الناشر : منشورات الأعلمي ـ طهران.
20. معرفة، التفسير الأثري الجامع، تحقيق مؤسسة التمهيد، الطبعة الأولى،1383، قم المقدسة.
21. مقاييس اللغة، مفردات الراغب، تهذيب اللغة، المصباح المنير، لسان العرب.
22. مناهل العرفان في علوم القرآن: الزرقاني، دارالفكر، لبنان ـ لبنان، 1408 هـ . ق ـ 1988م.
23. الميزان في تفسير القرآن: الطباطبائي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى المحققة، 1411 ﻫ ـ 1991 م
24. نورالثقلين، الحويزي، تحقيق: تصحيح وتعليق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي، الطبعة: الرابعة سنة الطبع: 1412 - 1370 ش، المطبعة: مؤسسة إسماعيليان، الناشر: مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع ـ قم.